רצף כתבות של סעד סלום בעיראק על מקומם של יהודי עיראק בתרבות הערבית, עד הדור השלישי ויצירתו בישראל ביחס לערבית ולעיראק.
الجزء الاول: إعادة قراءة تاريخ الطائفة اليهودية في العراق (1)..يهود العراق : قراءة متأخرة لتاريخ مستعاد
حفّزني على كتابة هذا المقال أربع مناسبات متتابعة، هي حسب الترتيب الزمني : صدور كتاب أوريت باشكين "البابليون الجدد" عن تاريخ اليهود في العراق الحديث، الذي يقدم مقاربة نقدية للرواية الصهيونية الرسمية لتاريخ الطائفة اليهودية في العراق وما يحيط بتهجيرها القسري، كما يقدم نقدا لطريقة تلقين الجيل الجديد المولود في إسرائيل حزمة المفاهيم المتعلقة بتاريخ يهود أوروبا وتطبيقه على سياق يهود العراق، وهو سياق مختلف تماما.
والأهم في الكتاب من وجهة نظري انه يطرح سؤال الهوية لدى يهود العراق ويضعنا في قلب شعور أفراد الأقليات الدينية في العراق بهذا السؤال، وعلى نحو يرتبط بالتعايش في المثال الاول وبغياب الإحساس بالمواطنة في المثال الثاني. ففي الكتاب مقاربات في غاية الاهمية لأعمال المثقفين اليهود العراقيين تحلل من خلالها باشكين الوطنية العراقية من وجهة نظرهم، وطبيعة احساسهم بالعروبة من هذا المنظور الوطني بوصفها "تعايشا"، لذا اصبح التاريخ والتراث العربي الاسلامي هو تاريخهم وتراثهم.
وفي ذات السياق الذي يعيد قراءة تاريخ الطائفة اليهودية في العراق فإن المناسبة الثانية تنطلق من نجاح فيلم مطير الحمام، والعنوان الاصلي "المطيّرجي" اثناء عرضه في اسرائيل، وهو ما يعد مؤشرا على صحوة "روح جديدة" لدى اليهود العراقيين، فهولاء اليهود العرب الذين تحولوا الى "مزراحيم : يهود شرقيين" في ظل دولة اشكنازية الطابع يعيشون صحوة هوية ويعيدون قراءة تاريخ طائفتهم المتجذرة في الذاكرة العراقية.
الفيلم، ومن قبله القصة التي كتبها إيلي عمير (ولد في بغداد 1937) التي استغرقت بحثا وكتابة اكثر من عقد من الزمن تتناول فترة في غاية الأهمية في تاريخ الطائفة اليهودية في العراق، فترة الاربعينيات وبداية الخمسينيات (الفترة الفاصلة بين الفرهود وتهجير الطائفة اليهودية)، هاجرت عائلة الكاتب في 1950 مع اكثر من 140 ألف يهودي، وهي ايضا فترة فاصلة في بناء الدولة/الأمة من خلال صعود نخب عسكرية قادت البلاد الى مفترق طرق جديد، وهو ما تجسد في ما يعرف بحركة مايس 1941، واضفى طابعه الحاسم على الدولة بعد ثورة 1958 ولحين سقوط نظام البعث 2003.
يتناول "المطيرجي" هذه الفترة على نحو أخاذ، فالفيلم باللهجة اليهودية البغدادية وهي قريبة من لهجة اهل الموصل، الامر الذي يجعل منه قطعة حية من ذاكرة مفقودة و مستعادة.
وسياق تناول : التمييز الاجتماعي، الفرهود، التهجير القسري، الاندماج، الريادة الاقتصادية، طبيعة المشاركة السياسية، اصبحت مسرحا للصراع بين قراءتين في داخل اسرائيل هي القراءة الصهيونية للتاريخ التي تحاول اثبات ان الفرهود كان معادلا للهولوكوست، وان تهجير اليهود كان حتميا في ظل اضطهاد اليهود، وفي مثل هذه الرؤية تصبح الحركة الصهيوينة خشبة الخلاص من شرور الحركة القومية العربية التي بدورها تصبح معادلا اقليميا للنازية.
أما الرؤية الاخرى التي يمثلها ابناء يهود العراق من الجيل الاول (شموئيل موريه، سمير نقاش، ساسون سوميخ، سامي ميخائيل، شمعون بلاص وآخرين) أو الجيل الثاني (إيلا شوحاط) او الثالث (الموج بيهار) فتقدم قراءة اخرى، يتضح من خلالها أن الفرهود لا يمكن مقارنته بالسياق الذي انتج ليلة الكريستال Kristallnacht (ليلة الزجاج المكسور) في ألمانيا النازية 1935 التي دمر خلالها أكثر من 500 من المعابد اليهودية ونهبت ودمرت فيها مئات المصالح الاقتصادية و الشركات اليهودية. وهو ما سوف اتناوله بشيء من التفصيل تباعا في مقالات متسلسلة.
تتمثل المناسبة الثالثة بصدور (اثنان) وهي انطولوجيا ثنائية اللغة للادب العربي والعبري الشاب والمعاصر، عن دار كيتر، 2014، اسهم في تحرير الانطولوجيا "آلموج بيهار" وهو ناشط وشاعر يمثل الجيل الثالث من يهود العراق المنتمين الى "روح حية" جديدة تناضل من اجل استعادة هويتها العربية في محيط تمييزي مركب، وقد كنت شغوفا في الاعوام الماضية بمتابعة اعماله القصصية والشعرية.
أهمية الانطولوجيا يصوغها تساؤل المقدمة : هل في هذا الوقت الرّاهن من النّزاع والصّراع، المستمرّ والمتراكم في قلب اللّغتين نفسيها، أُذُن مُتَفَرِّغة لِسَماع الشّعر والقصّة بلغة من اللّغتين العربيّة أو العبريّة؟
هذه ليست نصوصا ادبية بحتة يمكن عزلها عن الصّراع القائم، فالأدب حسب ما تذهب اليه المقدمة يمكنه أن يعبّر عن شيء من هذا النّزاع والصّراع القائم، وعليه ينبغي أن تتمّ قراءة هذا الأدب من داخل هذا الصّراع واللّقاء المتخبّط بين اللّغتين!
وبالرغم من أن انطولوجيا (اثنان) لا ترفع سقف هدفها الى الادعاء بأنّها بديل "للصّداقة والشّراكة"، أو استمرار مباشر للماضي الطّويل نفسه من "الحياة والعيش معًا" الّتي يتحدّث عنها نجيب محفوظ، أو تخفي التمني الذي تنطوي عليه كلمات محمود درويش "إنّ معرفة الشّعر ستقرِّب تقلُّب القلوب للإيجاب حتمًا"، فإنها تنطوي على هدف أكثر "تواضعًا" يتمثل بتقديم أنطولوجيا عبريّة- عربيّة ثنائيّة اللّغة لنصوص نثريّة وشعريّة لمؤلّفين شباب، يهود وعرب، وتعرِض عيّنة مِنَ الكاتبات والكتّاب والأعمال الأدبيّة المعاصرة باللّغتين، فقد كانت مشاريع التّرجمة السّابقة، غالبًا، باتّجاه واحد (أي ترجمة مِنَ العربيّة إلى العبريّة فقط، أو مِنَ العبريّة إلى العربيّة)، وتمركزت في الأجيال السّابقة في الأدب (ترجمة بياليك للعربيّة، ترجمة محمود درويش للعبريّة)، وأهملت الأدب المعاصر. (من مقدمة الانطولوجيا)
أما المناسبة الرابعة فتتمثل بزيارتي للعمارة، بدأت بزيارة كنيسة "أم الاحزان" شبه المهجورة وكنيسة "مار يوسف البتول" للسريان الكاثوليك المتآكلة الجدران، التي قامت عائلة حنا الشيخ الشهيرة بتشييدها في أربعينيات القرن الماضي، وانتهت جولة اليوم الاول بانطفاء الامل بهذه العلامات المضيئة في تاريخ العمارة، فذاكرة هذه المدينة التعددية بسكانها من مسلمين ويهود ومسيحيين ومندائيين الذين كتب عنهم "نجم والي" رواية متميزة حملت عنوان "ملائكة الجنوب"، قد ختمت بمنظر قبيح كالح، فما تبقى من المعبد اليهودي قد تم الاستيلاء عليه وتهديمه وتشييد محال ودار سكن في مكانه. لم يتبق من تاريخ الطائفة اليهودية العريق في ميسان سوى جدار ضخم يسند البناء القبيح المنشأ حديثا للشخص الذي وضع يده على المعبد بكل بساطة.
وذكر لي احد الجيران ان كتبا قديمة ومخطوطات قد ألقيت في النفايات قبل ان يتم إحراقها. اصطحبت صديقا فضّل ان نمرّ في المساء ونتسلل تحت جنح الظلام لتصوير الجدار الوحيد المتبقي من المعبد، فهو يخشى بطش الـ"هولاء" ، لذا توقف على بعد عشرين مترا في حين رحت أتأمل بقايا الذاكرة المتشظية.
من هنا مر القديس اليهودي "العزير" الذي ما يزال مقامه منتصبا في الناحية المسماة باسمه على بعد 70 كم من مدينة العمارة، وعاش هنا لعقود "داوود كبّاي" أشهر أطباء مدينة العمارة الذي كان أشبه بنبي مزود بمعجزات ويقدم خدماته مجانا للفقراء والمعدمين من أهالي العمارة (قيل انه كان يصرف لهم الدواء من جيبه)، ونجح في ارجاع البصر لفتاة عمارتلية عمياء، فتحول في مخيال الناس الى نبي متأخر يواصل مسيرة قديسه السابق "العزير" في شفائه للمرضى واجتراحه المعجزات.
وتمسك بالبقاء مع مرضاه بالرغم من التهجير القسري لليهود على يد حكومة العراق الملكي، وبرغم توالي الانظمة الجمهورية العسكرية والتهجيرات القسرية والحروب العبثية، ظل هذا القديس العمارتلي يخدم مواطنيه بحماسة وتكريس للذات، وعند انتقاله قسرا الى بغداد ظل يستقبلهم يوميا في البتاوين الى ان اضطره البعثيون في بداية السبعينيات للهرب قسرا الى خارج الوطن.
جعلتني هذه المناسبات الاربع اعيد التفكير بتاريخ الطائفة اليهودية في العراق مع هاجس بقراءة استعادية، موقناً بأننا لم نجرِ لحد هذه اللحظة مراجعة شاملة لفقدان اقدم جماعة يهودية في الشرق الاوسط، الامر الذي يضعني في احتكاك مباشر بأحد أهم القضايا المرتبطة بتاريخنا المعاصر وتاريخ الطائفة اليهودية في العراق، المتمثل بـ"تهجير اليهود".
لكني قبل ان اخوض في هذا النقاش المضفور بذاكرة ملتبسة ومذعورة، قد لا يكون مجديا الاشارة الى ان هذا النقاش لم يبتعد داخل العراق او خارجه عن تأثير التناول الايديولوجي طوال العقود الماضية، مثال ذلك سلسلة الكتب الدعائية الصادرة عن رجالات الموساد منذ خمسينيات القرن الماضي التي تتحدث عن (سفر الخروج الجديد) وتضفي هالة أسطورية على نضال هولاء من جهة، وعلى واقع التمييز ضد يهود العراق الذي يتم تصويره كتمهيد لهولوكوست مفترض.
يشجعني على هذه المراجعة التي لا تمثل سوى خدش في جدار، نمو (روح حية) لدى الجيل الجديد من يهود العراق الذي بدأ بمراجعة تاريخ الطائفة واسباب تهجيرها القسري، مقدما نسخة مستقلة ومنفصلة عن السياق الرسمي للتلاعب بطائفة متجذرة في العراق، كما في قيام الجيل الاول بكتابة مذكرات تؤكد هويتهم العربية التي غيبت في ظل استخدام لفظ بديل هو "المزراحيم".
وفي ظل الظروف التي يمر بها العراق اليوم، لا يغيب عن مثل هذه القراءة الاستعادية تناول السياق العالمي، فقصة تهجير يهود العراق تضرب كمثال على ارتباط تحول المجتمعات في الشرق الاوسط بالصراع الدولي أثناء الحرب العالمية الثانية، فكان فقدان واحدة من أقدم الجماعات اليهودية في الشرق الاوسط وانفراط تعددية المجتمع العراقي، مرتبطاً بأحداث صراع النفوذ بين القوى الكبرى التي تعيد رسم خريطة مجتمعاتنا اليوم.
صعود النازية الألمانية في اوروبا، وظروف الصراع الدولي بين الدول الأوروبية الكبرى في الحرب العالمية الثانية، كما في تأسيس دولة اسرائيل في الشرق الاوسط وتوجه الصهيونية نحو يهود الشرق الاوسط بعد (الهولوكوست) لملء الفراغ الذي نجم عن إفناء اليهود الأوربيين من أجل توفير مادة خام بشرية جديدة للدولة الجديدة، جميعها ترسم خلفية مشهد انفراط التعددية في الشرق الاوسط.
أكثر من ذلك، فإن تهجير يهود العراق يفتح الباب لقراءة تاريخ تلك الفترة المعقدة وتبديد الأوهام والأساطير من خلال مناقشة فرضيات حول المسؤول عن التهجير 1950- 1951 وما اعقبه من "فرهود رسمي" من قبل حكومة العراق الملكي، وقبل ذلك عن "الفرهود الآخر" الشهير الذي طال يهود بغداد 1941، وشكل ذاكرة تم التلاعب بها لصالح نسخة محددة من التاريخ أعيد سردها من منظورات مختلفة لتخدم أغراضا سياسية، فأصبح عام 1941 نقطة تحول مفصلية في تاريخ يهود العراق وسرد قصتهم من منظور الحركة الصهيونية التي تمثل القومية اليهودية، كما أصبح بذرة لانطلاق الحركة القومية العربية في العراق حسب القراءة البعثية.
هناك، إذن، قراءتان متقاطعتان للتاريخ في الماضي، وهنا في الحاضر قوى لاستعادة ذلك التاريخ، فقد أصبحت تلك الفترة بالذات نقطة انطلاق لروح جديدة لدى يهود العراق في اسرائيل، تخوض نضالاً في ظل صحوة هوية لاستعادة ثقافتها العربية، يمثلها اليوم الجيل الثالث من يهود العراق. فما أحوجنا نحن في داخل الوطن لتقديم إعادة قراءة مماثلة لكي نفسر تمزق الحاضر، ونحلل أسباب فشل الدولة الوطنية في فترة ما بعد الاستقلال في تحقيق توازن بالعلاقة بين الدولة والمجتمع، مفرزة نماذج سلطوية في الحكم أدّت بنا الى الدمار.
يمهد هذا الفشل لإعادة ترسيم خرائط بلداننا على نحو جديد، وإعادة هندسة مستقبل أجيالنا من قِبَل قوى عالمية وإقليمية، ففي سياق الفوضى التي أعقبت الاحتلال الاميركي للعراق 2003 وعلى خلفية الحرب العالمية على الإرهاب التي انطلقت بعد احداث 11 ايلول 2011، وظلها المنسحب اليوم في حرب التحالف الدولي ضد ارهاب مقاتلي الدولة الاسلامية في العراق والشام المعروفة بـ"داعش" 2014، يعاد رسم خريطة الشرق الأوسط مجدداً، على نحو يهدد ما تبقى من تعددية في الشرق الاوسط، وهو ما ترسمه هجرة أقليات العراق من مسيحيين ومندائيين وإيزيديين وغيرهم من الجماعات الإثنية.
لعلّ أبرز أصوات الجيل الثالث من يهود العراق أو جيل "روح جديدة"، هو الشاعر والناشط "آلموج بيهار" الذي ولد في العام 1978، صدرت له كتب ومجموعات شعرية، جميعها حظيت بترجمة عربية وترجمات للغات أجنبية.
كما يعمل "بيهار" على مشروع شعري طموح يترجم فيه بعضاً من قصائد نزار قباني إلى العبرية، ويحاول من خلال ترجمته غير الحرفية ان يستخدم كلمات قباني لإيجاد كلماته، أو ان تتحول الترجمة لديه إلى كتابة قصيدة أخرى، قصيدته ، التي تتغذى على طاقة شعر قباني، وقد كتب في تقديمه لخمس ترجمات لنصوص قباني المنشورة في مجلة "هاكيفون مزراح" (الاتجاه شرقاً) ان "هذه القصائد هي جزء من مشروع أكثر اتساعا من الترجمة- المعالجة التي قمت بها على مختارات من قصائد هذا الديوان.
في طريق الترجمة – المعالجة أسير في أعقاب بعض ترجمات العصر الوسيط من العربية إلى العبرية، وعلى رأسها، الحريزي الإسباني الذي ألّف "كراسات إيتيئيل" أمام مقامات الحريري العراقي، وكذلك ترجمة مغامرات "الراهب وابن الملك" لأفراهام بن حسداي. الترجمة التي قمت بها هذه هي في حالات قليلة حرفية تماما، "ترجمة" فعلا، وفي حالات قليلة أخرى فهي لا تتصل بقصائد نزار قباني، الذي أستخدمه كاسم شهير فقط أكتب قصائد لولاه لما كنت لأكتبها، في سائر الحالات ، فالمعالجة هي بين بين، ذات صلة واضحة بقصائده، وكذلك مع انحرافات واضحة."
يحتل قلق الهوية بسبب مركب تكوينها من ثقافة شرقية-عراقية تنتمي اليها عائلته، وما واجهته من تمييز داخل المجتمع الاسرائيلي مكانة مركزية في كتاباته. وان كانت كتاباته نوعا من الاحتجاج السياسي والثقافي المؤسس لثقافة مناوئة للانتهاكات والتمييز، فإن نشاطه الاحتجاجي يتساوق معها ضد سياسات الحكومة الاسرائيلية التمييزية ومن ضمنها جدار الفصل العنصري.
يروي "آلموج بيهار" قصته الشخصية في كتاباته، قصة اليهودي العربي الذي يواجه التمييز ممزقا بين الماضي والحاضر، فما يميز "بيهار" هو هذه الهوية المميزة التي يكشف عنها مظهره، قبل كل شيء سوف يصطدم بـ "المظهر" والوجه الذي يظهره للعالم، فعندما يتنقل الى القدس وعندما يصادف عمليات تفتيش للشرطة، لا يتم التعرف دائما عليه وعلى الفور كيهودي، ولكنهم يعدونه عربيا، وعندما يريد أن يذهب إلى ناد ليلة الجمعة فإنه غالبا ما سيواجه مشكلة مماثلة .
لذا وجد حلا، اذ بدأ يحلق وجهه مرتين في اليوم، وأحيانا أكثر، مثل هذا الحل سبب الحزن له، اذ انه يشبه حلاقة ظله "المزراحي" مرارا وتكرارا حتى يمكن أن يكون يهوديا. يقول بيهار "بمعنى ما يبقى المظهر الخارجي حتى بعد المحو الثقافي، اذ ان من المستحيل اخفاء أو محو ذلك، حتى لو حاولت وقد حاول البعض فعل ذلك، لكن في النهاية انت تنظر لتشاهد في المرآة وجه جدك ووجه جارك العربي".
وهناك قصص لاتقل قسوة في المحيط العائلي، فوالدته هاجرت من العراق عندما كانت في الخامسة. وفي أحد الايام جاء المعلم إلى منزلها وطلب من جده وجدته التوقف عن التكلم معها بالعربية. استجابت امه لذلك، وبدأت بالاجابة عليهما بالعبرية، لكنهما مع ذلك ظلا يتحدثان العربية، ذلك- وبحسب بيهار- سبب انكسارا في هوية الجيل السابق، جيل أجداده. الجيل الذي اختار الصمت حتى يتمكن الأطفال من المضي قدما في الذوبان في ثقافة أخرى.
أما أمه فقد كانت العملية برمتها بالنسبة لها نوعا من التأقلم مع التطور في إسرائيل. فقد انتقلوا من خيمة إلى كوخ، من كوخ إلى مشروع الإسكان، ومن الاخير إلى منزل خاص بهما. ولكن جده، كان له رأي مختلف تماما. رأى كل شيء يتدهور من حوله بالمقارنة مع حياته السابقة في بغداد؛ وقد اخبرت "بيهار" والدته كيف مات جده مكسور الفؤاد عندما رأى الوضع الذي اصبحوا يعيشون عليه بعد ان تم تهجيرهم من بحبوحة العيش في العراق.
نما داخل "بيهار" شعور بانفصام أكبر بين الأجيال، عندما شاهد جدته في الاشهر الستة من حياتها تنسى العبرية و تتكلم فقط بالعربية، لم يتمكن حينها من التحدث إليها. وسبب له ذلك انكسارا، مثل هذه المشاعر دفعته للخوض مجددا في التراث الثقافي لاسلافه.
وتختصر قصيدته "عربيّتي خرساءُ" هذه الازمة الوجودية لتصدع بين الماضي والحاضر وبين الشرق والغرب وبين العربية والعبرية :
غاصَّة
تسُبُّ نفسها
دون أن تتفوّه بكلمة
تنامُ في هواء ملاجِئ نَفسِي الخانق
تختبِئُ
من أبناء العائلة
خلف ستار العبريّة.
وعبرِيَتي تهتاجُ
تتراكض بين الغرف وشرَف الجيران
تُسمعُ صوتها للجُموع
تتنبّأ بقدومِ اللهِ
وبلدوزراتٍ
وعندها تنزوي في الصالون
تفكّرُ في نفسها
ظاهرةً ظاهرة على حافّة جسدها
مغطّاةً مغطّاة بين اوراقِ لحمها
لحظة عارية ولحظة مكسوّة
تنكمشُ في الكنبة
تطلبُ معذرة قلبها.
عربيّتي خائِفةٌ
تتنكّر بصمتٍ للعبريّةِ
وتهمسُ للأَصدقاء
مع كلِّ طرقةٍ على أبوابها:
"أهلاً أهلاً".
وأمام كل شرطيٍّ يمرُّ في الطريق
تبرزُ هويّةً
تشير إلى البند المدافع:
" أنا من اليهود ، أنا من اليهود".
وعبرِيَتي صمّاء
أحيانًا صمّاء للغاية.
(ترجمة : ريما أبو جابر)
وفي سياق متصل تختصر قصته "انا من اليهود" صراع الهوية، والانتفاض ضد الصمت في الجيل القديم الذي سبب انكسارا ومحوا لثقافتهم، وتعبر عن انتماء قوي لروح جديدة تعيش صحوة هوية أو تتمرد على عالم كاتم للانفاس.
فازت قصته بجائزة "أحسن قصة قصيرة في "إسرائيل" لعام 2005"، تلك الجائزة التي تمنحها صحيفة هآرتس، كبرى دور النشر الإسرائيلية، التي تحظى جوائزها باحترام النخبة المثقفة في "إسرائيل".
تعبّر "أنا من اليهود" بوضوح وبطريقة مباشرة عن قصة "بيهار" نفسه بوصفه يهوديا عربيا من أبناء الجيل الثالث من اليهود الشرقيين المهجرين الى اسرائيل، هو لا يتحدث العربية التي كان اجداده يتحدثونها في "بغداد". ويعيش في مجتمع تهيمن عليه ثقافة اليهود الأوروبيين الاشكنازية، وتنطوي القصة على انتفاض على مهيمنات هذه الثقافة، ورفضا كامنا لاحتقارها ثقافة اليهود العرب بوصفها ثقافة من مستوى أدنى، فالقصة تتداخل مع حياة "بيهار" في الحاضر كما مع حياة اجداده، بل هي القصة ذاتها، قصة والديه كما يقول، ولهذا اختار لقصته عنوانا بالعربية (انا من اليهود).
"ألا تميزان قصتكما هنا؟! ومع كل ذلك لقد علمت الإجابة من صمتكما. الآن فقط حاولت أن أكتب القصة بالنطق العربي" ففي النهاية هما يعانيان التمزق نفسه "خذوا قصتي واقرأوها، يا أمي، يا أبي، اقرأوا قصتي التي أخفيتها عنكما سنوات طويلة، فأنتما تعانيان نفس الشتات، نفس الصمت، نفس الشعور بالغربة بين القلب والجسد، بين التفكير والنطق"
ولكونها ناقلة للقيم ومعبِّرة عن الثقافة والحياة الاجتماعية، فقد شكِّلت اللغة عاملا حاسما في تكوين الهوية، للفرد كما للجماعة، وانبعاث مارد التمرد اللغوي على الثقافة المهيمنة من رماد الماضي، يمثل ارتدادا للثقافة الاولى، فالانسان يظل سجين ثقافته الاولى، حسب الانثربولوجي الفرنسي "ليفي شتراوس" مهما حاول المضي في تحولات جديدة، ومثلما يتجسد ذلك في الفرد، فإنه يترجم على صعيد هوية الجماعة، لذا كان تموز (شهر التحول) يحمل طابعا زمنيا ارتداديا، ففي شهر تموز الاله، آله الخصب والنماء في اسطورة الخلق البابلية حصل الحدث العجائبي الاهم الذي سيقدم فيه بيهار قصة تنطوي على خيال شعري مثير، إذ يستيقظ ليجد نفسه يتحدث لغة اجداده (العربية) في تحول للهوية او انبعاث مفاجىء لها، كما تحول غريغور سامسا بطل كافكا في قصته الشهيرة (المسخ) الذي استيقظ ذات صباح ليجد نفسه قد تحول الى حشرة عملاقة، "انقلب لساني، وبحلول شهر تموز التصق بسقف حلقي، ثم بدأ يتزحلق بعيدا على صفحة الحلق حتى وصل إلى النطق العربي. وبينما كنت أسير في الشارع، ارتد إلي النطق العربي الذي كان يتلفظ به جدي أنور".
وأخذ ينطق الحروف مثلما كانت امه تفعل، واضطررت لتجنبه لكي تنال رضا مدرسيها وتتبع نصائحهم في المدرسة لكن محاولاته لم تنجح من الهرب من الماضي.
يواجه البطل في تنقله في الشارع مشاكل مع الشرطة في تبرير لكنته العراقية، مخضعين اياه لتفتيش صارم، فهذه الثقافة متهمة بالارهاب وموسومة بكونها ثقافة العدو، أما اصدقاؤه الاشكنازيون فقد انكروا لغته الجديدة-القديمة كما تنكر اسرائيل الاشكنازية الثقافة اليهودية العربية، ها هو صوت جده الذي مات في صمت يعود من جديد من خلال صوته،"فجأة بدأت هذه الشوارع التي اعتادت موته، وغيابه، تسمع صوته من جديد. لقد خرج من داخلي هذا الصوت الجميل، الذي كان محبوسا في ماضيَ، خرج لا يطلب التكفير عن خطيئة، ولا يستجدي الفتات، إنه صوتي، صوت قوي ومرتفع".
وكان قد سبق لـ"شمعون بلاص" ان تحدث في فيلم "أنس بغداد" لسمير جمال الدين عن عودة معطيات الثقافة الاولى مهما حاولت الهرب منها أو كبتها، كانت اشبه بانتقام للماضي عبر اقوى ادواته "اللغة"، كانت ثأر اللغة ضد محاولة محوها او نسيانها، فحين اراد "بلاص" قسر ذاته على التطابق مع هوية ولغة الدولة الجديدة، فانغمس في تعلم العبرية وحاول نسيان العربية، صحا ذات يوم ليجد نفسه غارقا في فيضان من اللغة العربية، ثأرت العربية منتفضة من ذاكرة لا يسهل ترويضها.
انتقام اللغة في قصة "بيهار" يتحول من مأزق شخصي وجودي الى (وباء عام) يشمل الجميع من اليهود الشرقيين والغربيين على السواء، اذ انتقلت العدوى في البداية الى زوجته التي "ظهر على شفتيها خليط من نطق يمني ترجع أصوله لأبيها، ونطق اسطنبولي يرجع في أصوله لأمها". وبعد ذلك اخذت طرق النطق القديمة تخرج للنور، بعد أن ظنوا أنها اختفت، وحتى اليهود الغربيون اخذوا يستعيدون لكناتهم البولندية، والمجرية، والرومانية، والألمانية، والأوكرانية.
على مستوى آخر، فإن لحظة الارتداد لمعطيات الثقافة الاولى، تترجم على مستوى سياسي بكونها لحظة نبوءة، لحظة مفصلية في مستقبل مقبل، تحذير من غد تعود فيه هويات فرعية مقموعة لتمثيل نفسها مجددا في خصوصية عائدة، ليست لحظة صحوة هوية او انبعاث للماضي بقدر ما ستكون لحظات احتضار لسياسة الادماج القسرية وانكار الثقافة العربية اليهودية في اسرائيل، وعودة للاصوات التي ارغمت على الصمت خلال العقود الماضية.
"بدأ جدي يحادثني، ويسألني :هل هناك نهاية لهذه القصة؟ لماذا يختلط تاريخي بتاريخك، كيف تنتهك حياتك بهذه الطريقة، أنا "جيل الصحراء"، كيف تنهض وتعيدني للحياة، إنك الجيل الذي انتظرناه، انتظرنا ألا يفصل بين ماضيه وماضي آبائه، لأن ماضينا مؤلم جدا، لقد بقيت في الصحراء آكل الطيور الجوارح من أجلك أنت، حتى لا تذكرني، حتى لا تتألم مثلنا، كيف تعض بالنواجذ على كلماتي من جديد، وأين، في "أورشليم"، حيث لا توجد المقاهي، ولا نهر دجلة يشق المدينة إلى رحمين، أنا لم أمت في "أورشليم"، ولا في مسقط رأسي، لقد مت في الصحراء الفاصلة بينهما، صحراء الصمت".
إنها قصة عن الهوية المتصدعة بين الماضي والحاضر وبين الشرق والغرب، وهي قصة ليس لها نهاية على ما يبدو "نهر دجلة لا يقسم مدينة القدس، وهدير مياهه لا يسكت الحدود المفروضة علينا، الحدود التي تفصل بيني وبين نفسي، لا أنا هنا ولا أنا هناك، لست شرقيا ولا غربيا، لست صوت الحاضر، ولا صوت الماضي، ماذا ستكون النهاية؟"