הכותב עבד אל-אמיר אלריכאבי מעיראק כתב על הרומן "צ'חלה וחזקל", שראה אור בערבית בקהיר בהוצאת אלכותוב ח'אן בתרגום נאאל אלטוח'י, שתי רשימות שבהן הוא מדבר על הזמן האברהמי (כאן הרשימה הראשונה, וכאן השניה):
زمن فلسطين الابراهيمية العراقية (1م2)
عبدالامير الركابي
الحوار المتمدن-العدد: 5428 – 2017 / 2 / 10 – 14:55
لست متهيبا مما قد يثيره الراي المطروح هنا، لاعتقادي بان ردة الفعل المتوقعة عليه، متوقع لها ان تتفق مع مقتضيات اللحظة، خصوصا مناخ التخلخل البنيوي، وفداحة الفراغ المفهومي، وبالأخص انهيار مشاريع الدول القومية الوطنية الذهنية، وتبعا له وبمواكبته، الفوضى التفكرية الحاصلة، وماتقتضية من ضرورات استجابة للمغامرة الفكرية بامل اختراق ماكان مسكوتا عنه، او لنقل جرى الهرب منه مطولا، بتغطيته عجزا، بمفاهيم استعارية، أدت في التاريخ العربي المسمى حداثي ونهضوي، مهمة العيش في الفكرة والنص المستعار من حاضر اخرين، أومن ماض محلي دليل حيويته الوحيد، قدرته على السطوعلى الحاضر والغائه.
وسابادرأولا للإعلان عن عدم قناعتي بما هو متداول من تفكرات تلفيقية، تخص القضية المعروفة في العصور الحديثة العربية ب "القومية"، ومنها ومثلها موضوع "الوطنية " شبه المحلول دلالة وتعبيرا في اللغات الاوربية، لاعتبارات غاية في الوجاهة، تخص ظاهرة " الدولة الامة" هناك، وحسب معتقدي فان المنطقة التي تعرف بالعربية، هي بالأحرى اقرب لكونها من حيث مقومات التوحد التاريخي الأساسية "ابراهيمية"، قبل ان تكون "عربية" بمعنى العروبة الاقوامية، ولا داعي لان نتذكر بان العرب بماهم قبل ابراهيميين، ليسوا هم انفسهم وقد اصبحوا بالدعوة المحمدية "أصحاب كتاب"، كما انهم حين فتحوا المنطقة العربية المعروفة حاليا، لم يفتحوها بصفتهم عرب الجاهلية المحكومين لاقتصاد الغزو، ام قبل ان ينتسبوا هم قبلا للمنطفة حين اصبحواابراهيميين، كشرط لان يسبغوا نسبتهم الاقوامية على المجال الابراهيمي السابق على توطنهم في الشام والعراق ومصر بالفتح.
مثل هذا التقدير الأساسي، لايلاقي في العقود الحديثة الإهتمام، أولا لان الابراهيمة لم تجد بعد أسبابا تجعلها قابلة للتجدد والراهنية، فلم تعرف الابطبعاتها الثلاثية النبوية المتكلسة القديمة، ما سهل لفكرة القومية إمكانية، لابل ومبررات الاستخدام، ليس بفعل الضرورات التاريخية الذاتية التاريخية، بل لانها وجدت ما يغذي حضورها، بناء لصعود الغرب ونموذجه وطبيعة كياناته، الامر الذي لم يسمح بتحفيز العقل العربي، كي يعالج احتمالات ابعد ظلت الى اليوم غير مطروقة ومعقدة، وربما معتبرة غير منطقية، خصوصا وان محتملات عمل الاليات اللازمة والمساعدة على تجديد الابراهيمية في الحاضر، تبدو حتى الان منعدمه، ولم يظهر بعد على نطاق يمكن ان يشار له، مايدل على انها قابلة للتجدد بالتوافق مع المستقبل، فالديانات المعبرة عنها ماتزال تنحو منحى نكوصيا سلفيا، مؤدية مهمة الحضورالمتناسل المنصب على "الحفاظ السلبي على الهوية" فقط لاغير، ومن غياب افق أي "مشروع حضاري" محتمل، هو في الحالة الراهنه وحكما، مشروعا استثنائيا لايقل عن مطمح شاهق مثل "مابعد غرب".
اعتقد ان أجواء مايسمى الحداثة واليقظة، وشتى أنماط الاستعارة التي استغرقت القرون الثلاثة المنصرمة، لم تعد تجد، مايمكن ان يجعلها تواصل الحضوروالفعل، ومع ان تبعات مثل هذا التحول المنتظر مقدر لها ان تتخذ كمادة بحث وتطبيق، مساحة زمنية، وعلى صعيد الموضوعات، متشابكة وواسعة، الا ان نموذجا من بينها استحوذ على انتباهي مؤخرا، ساحته القضية الفلسطينية من دون بقية القضايا المحورية، ربما لان مثل هذا الموضوع الحساس مايزال مدار انشغال مستمر، وربما لانني سبق وتعرضت لهذه القضية بالتحليل ومحاولة الاستشراف، متابعا تطور ظاهرة "منظمة التحرير الفلسطينية": ( من المخيم، الى الدولة من دون ارض، الى الأرض بلا دولة بعد أوسلو)، وهي متوالية كنت اعتمدتها وكتبت عنها بحثا في جريدة "السفير" اللبنانية تحت مسمى "الفلسطينيون الجدد"، اطلع عليه المرحوم الشهيد القائد "ابوعمار"، وحثني على تطويره وقتها في لقاء لي معه في القاهرة، حضر الرئيس الفلسطيني الحالي "محمود عباس" جانبا منه، منتظرا مني/ أبو عمار/ اصدار كتاب بهذا العنوان.
حين اتأمل الان وبعد عاصفة المتغيرات الطارئة على القضية ذاتها، وعلى اجمالي الوضع في المنطقة والعالم، وباسرائيل، يداخلني اعتقاد بان الفلسطينين هم على وشك مغادرة الطبعة الحالية من فلسطينيتهم المتعارف عليها( لم تكن بحسب رايي ولن تكون ابدا ظاهرة نهائية كما هو حال اجمالي قضايا المنطقة العربية الاساسية)، على اعتبارها لحظة استعارية تمر منذ سنوات بحالة تآكل، مثلها مثل وطنيات عربية، مع المفهوم القومي الأعم، ولن اكرر هنا المقارنه الشكلية التي اجراها الكاتب السوري الراحل "صادق جلال العظم" في السبعينات بين "منظمة التحرير الفلسطسنية" و "الوكالة اليهودية العالمية"، فتكرار مثل هذه المقاربة التقنية، لن يضيف للوقائع شيئا، بالأخص من ناحية تطور الدلالة، وبالذات لجهة حضور "وطنيتين" قاعدة تبريرهما ليست وطنية ولاقومية بالمعنى الموضوعي المعاصر، فتحويل اليهودية الى "صهيونية" استنادا للتطور الغربي الحديث في مجال القومية والأمة، ودفعة المباشرالذي يلغي "المنفى اليهودي" القدري والمتلازم مع العقيدة الأصل بقرار مفتعل وقيصري، يقابله صدى تؤطره، محفزات لها امتدادات عربية قومية ووطنية تحررية، ليست بالضرورة متطابقة مع مايبررها. بالاخص اذا ماقارنا الدعوى الصهيونية الحديثة من حيث الحيثيات والخطاب، واختلاق الاسس التاريخية، بمقومات الامه الغربية وكملحق لها، هذا مع العلم ان الفلسطينيين يمكنهم من هذه الناحية، ان يبنوا وقد بنوا وطنيتهم على قاعدة الاضطهاد المباشرالواقع عليهم،كما هو ماثل في"الاحتلال"، وفداحة فقدان الأرض واغتصابها، المشفوع بالاستيطان والطرد، فكل هذا كاف لتكوين أساس شعوري لقضية شعب، وحقوق مهدورة بصلافة وعجرفة، باسم ادعاء تاريخي مزور، ليس ثمة ما يجعله باي حال من حصة من يدعونه، اي المستوطنين اليهود الغربيين الغرباء. ولن نجد مكانا تلعب فيه مفاهيم ونموذج الوطنية الغربية فعلا متعاكسا، وبمنتهى التناقض، مثل قضية فلسطين كما تتجلى واقعيا كمحورعبر مفهومين ومشروعين للوطنية، ينفيان بعضهما البعص كليا، مع انهما صادران عن نفس المرجع.
مؤخرا وقعت على رواية "تشحلة وحسقيل" للكاتب العراقي المقيم في إسرائيل /قسرا/ ،"الموج بيهار"(1)، وكنت قبلها قد اطلعت على عمل كاتب عراقي آخر، مقيم في إسرائيل، هو "ساسون سوميخ " عنوانه "بغداد بالأمس"(2)، والعملان اثارا عندي تساؤلات من قبيل: لماذا لم تفلح إسرائيل في جعل العراقيين اليهود يقلعون عن الانتساب لارض آبائهم واجدادهم ويختارون "إسرائيل"؟ ولماذا، وما الدواعي العميقة التي تجعل بغداد وبابل اكثر حضورا في الوعي العراقي اليهودي من "اسرائل" الصهيونية المفبركة، ومن سمير نقاش الى شمعون بلاص، الى .. ألخ الى الفن والغناء واستنساخ وتناسل الحياة اليومية، تاكد لدي ان موضوعة المنفى في الاطار الابراهيمي/ العراقي، ليست قضية او ظاهرة عارضة، او انها من حيث التراتبية، او الوجاهة التاريخية والنفسية الشعورية لشعب، ادنى من مسالة انتماء" قومية"، تتجلى معتقديا بحكم طبيعتها الاصل، ذلك مايجعل ظاهرة "اليهودي العراقي" المنفي الى إسرائيل، لاشبيه لها باعتبارها قضية تضاف لقضيتين اخريين بامتياز وخصوصية، فثمة هنا تفاعلات مسالةقومية كانت مؤجلة ومطموسة بحكم اللحظة، وقوة حضور المشاريع المستعارة والملفقة المدعومة بقوة الغرب الاستعماري الحديث.
ولا ينقص الظاهرة التي نحن بصددها مايجعل منها مسالة وجودية بامتياز، قابلة للتنامي، يقول الموج بيهار:" ليس منفى الالفين وخمسمائة عاما كمنفى السبعين عاما، سنظل في المنفى ان لم تقم بابل في جسد ارض إسرائيل" ـ وفي الهامش اسفل الصفحة يرد :"ان يهودية العراق هي الأكثر نقاء في العالم كله، تليها يهودية فلسطين، تليها كل بلدان العالم" والهامش هو تعليق على جملة سابقة يقولها الكاتب في الصفحتين 117 /118نصها: " كل البلدان كالعجين المخلوط بالنسبة لارض إسرائيل، وإسرائيل كالعجين المخلوط بالنسبة لبابل"(1).
هل من أصداء مقابلة يمكن تسقطها على المنحنى الآخر؟ من قبيل الصدفة مثلا، او المسار التحققي الراهن ؟ …قبل بضع سنوات كنت دعوت الى بناء "بيت الله الثالث" في جنوب العراق، عند بيت النبي إبراهيم في اور الكلدانيين، ومن يومها الى اليوم تكررت عدة مبادرات ملفته منها، وصول وفد مسيحي من الفاتيكان زار بيت إبراهيم، وصلاة شيخ مسلم مع مريديه مقتبلا الزقورة، باعتبارها بيت الله ( كتبت عنها في حينه مقالا مطولا)، وقبل أيام بثت احدى الفضائيات العراقية، نبأ اعتمار عراقيين في الزقورة قرب بيت النبي إبراهيم، ومثل هذه الظاهرة تبدو اليوم معاكسة تماما للمناخ الطائفي، او الديني المازوم بشكل عام، او حتى بإزاء نزعات "المهدوية" وحركاتها المتناسلة في العراق منذ أوائل التسعينات، ومع صعوبة الإفصاح على نطاق واسع عن مثل هذا المنحى، الا ان الدعوة التي تعتبر القدس ومكة بيتين بنيا كبدل عن ضائع في المنفى، ابان فترة تعذر تحقق الابراهيمة في ارضها لاعتبارات موضوعية وزمنية، تجد أصداء مكبوته، لكن قابلة للاتساع.
وحيث تقوم دعوى الصهيونية الحديثة على قطع "المنفى" المكتوب على بني إسرائيل ، من دون مبرر ابراهيمي من داخل تطور العقيدة التوحيدية، يبدو العراق اكثر آهلية، للإعلان الطبيعي عن نهاية الزمن الموعود، أي بداية تحقق الوعد في ارضه، وحيثما يكون العراق قد شارف من هنا وصاعدا على مكابدة أسباب تحقق الوعد الابراهيمي المنقطع في الموطن الأصل، فان مايؤول من الدعاوي الصهيونية الحالية يصبح بلا أي سند من أي نوع كان وينهارتماما.
هل من ابراهيمية عراقية ضد صهيونية (2/2)
عبدالامير الركابي
الحوار المتمدن-العدد: 5430 – 2017 / 2 / 12 – 14:01
ولست ازعم ان انبعاثا ابراهيميا،هو من الأمورالمتوقعة الحدوث وشيكا، الا ان مثل هذا الاحتمال يصير اليوم من بين الخيارات التي لايمكن اهمالها، إزاء دعاوى أخرى ليس لها مبرر واقعي موضوعي، فالقومية، والوطنية، تقف خلفهما في اوربا، الثورة الصناعية وعصر الانوار، ومع ذلك هما أليوم في حالة تعثر بعد ان حققا الغرض منهما، بينما اوربا تدخل ازمة مطردة على مستوى النظام، أساسها انتهاء الصلاحية، بمقابل ازمة مقابلة مركبة واعمق على الجانب الشرقي من المتوسط الابراهيمي، حيث الأمة تتشكل بالمفهوم/ الديني ( ماعرف لاحقا وحديثا ب " الايديلوجيا")، وحيث العروبة ذاتها لم تصبح "أمة" كما كان "إبراهيم امة/ حسب القرآن " الا بكتاب، أي بمفهوم سابق على وجودها، بقرون.
تبدو اليهودية العراقوية مع "الموج بيهار" متفقة مع نبض ووجهة تحولية متفوقة على القوميتين الفلسطينية الوطنية الحديثة، والصهيونية المتناقضة والمفبركة، ومع كون الفلسطينية اقرب لمعسكر الحق البديهي بما لايناقش، الا انها تفتقر من حيث المبررات أسباب الصلة بتجددات الأساس المفهومي الابراهيمي الذي يكتنف وجودها، وهو مايبدو ان القضية الفلسطينية بحاجه لان تبدا بمواجهته قبل ان تتوقع الخروج من مازقها الحالي، الإسلامي والوطني المستعار، وهو أيضا مااجد الان انه أخرَ وقتها تلبيتي لرغبة الشهيد أبو عمار، فالرؤية التي كنت اتحسسها، وارى انها مفقوده، مع انها لازمة بإلحاح لاستكمال مراحل تطور القضية الفلسطينية، كانت وقتها ماتزال في طور اولي جدا، ومبهم، وبحاجة لسنين قبل ان تصبح قابلة للمعالجة الأولية كما أحاول ان افعل الان.
هل يعني ما اتعرض له هنا تاشير باتجاه سبل نهوض بعناصر جديدة، تتخذ في فلسطين قاعدة تجلي بابل، او اور في قلبها، بما يعني انبعاث الابراهيمية في الحاضر، وبما يعبر الغرب ونموذجه، وبالأخص الصهيونية التي بدات ركائز سندها النموذجي ومرجعيتها الغربية تهتز، وتوشك على الزوال، ومع ان الفلسطينية الابراهيمية العراقية مازالت ثقافية من حيث تجلياتها حتى الان، ومحدودة، الا انها لم تخل في أي يوم من افق مرشح للازدهارعمليا، بانتظار الظهير المتنامي في الأرض الابراهيمية الأولى، كما تنبيء من هنا فصاعدا تناميات فكرية مطردة، مع علامات وصول "زمن التيه" على الإنقضاء.
واذا ماعرف المناخ الفلسطيني الجديد يقظة متاتية من حضور الدعوة الجديدة، فان اليهودية العربية ستصبح من مقومات، لابل قاعدة الحركة الفلسطينية المناهضة والمضادة للمشروع الصهيوني الصلبة، وستتوقف سواء عند اليهود المغاربة، او اليمنيين، او الشرقيين القريبين، غلبة وسطوة المشروع الغربي الصهيوني الاشكنازي ومبرراته، مثلما ستعرف بنية إسرائيل المواطنية تشققا مهما، في حين تكسب الجبهة الفلسطينية الحالية، بعدا بشريا وروحيا جديدا ضمن مناخات تجدد في الرؤية "العربية"، ويعني مثل هذا التصور تفاعلية ضرورية عراقية ابراهيمية جديدة، حيث العراقي المنفي في إسرائيل، مؤهل واقعيا لاستعادة مواطنية، ماحقة للصهيونية الحديثة، ليصبح عنصر تجديد وحيوية في قلب الهيئة الفلسطينية القائمة بشقيها المتراجعين والمفتقدين اطرادا للتمثيلية والفعالية، سواء بفرعها الإسلامي، او فرع "منظمة التحرير الفلسطينية" مجسدة في الدولة القائمة.
ولايفتقر اليهود العراقيون للارث المحايث لاحتمالات الانبعاث العراقي الابراهيمي المقترب من الصعود وسط غبار كثيف، مايزال يتزايد مالئا الافق هناك وفي المنطقة ككل، كذلك الامر على صعيد البؤرة المحركة، بالأخص اليوم، مع تطور وسائل التواصل والابلاغ العام. حيث الاسبقية والإصرار كما هما، متواصلان في فلسطين، دالتان على نمط من الموازاة التاريخية، بمعنى الانقلاب المفهومي العام، ومعها حتما تبدل عمل الاليات، فنهوض الابراهيمية المتأخر لايشبه اشكال تجلي القوموية بين الاحتلال العثماني والتغلغل الغربي، وحاجةأبناء الاعيان العرب، والمتعلمين الجدد لاطار سلطة، بظل قحط خيالهم، وانعدام قدرتهم على التفاعل مع مجالهم الحضاري. ف"سمير نقاش" الذي هرب من إسرائيل عدة مرات الى لبنان، وايران، وكان يعاد اليها في كل مرة، لم يكن مجرد كاتب، بقدر ماهو مدون بالسلوك لتوراة مستحدثة، كان يعود الى فلسطين ليسجن، ليس على حنينه للأرض الأصل، بل على حفره وابتداعه لرؤية يهودية نافية وماحقة للتوراة الصهيونية المزورة، واشكال مثل هذا النفي المضاد او الماحق متعددة، تنبثق الان بافق خطير للغاية واستثنائي،على يد حفيد لم يعرف العراق.
توفي "سمير نقاش" في المنفى، بينما مايزال "حسقيل قوجمان" حيا يرزق، مايزال شيوعيا من زمن اربعينات القرن الماضي، عديم الخيال، ومقفل على رؤية مزورة وفجة من نوع آخر، ومع هذا ماتزال مشوبة بالعاطفة، ومع نوع فريد من الانتماء حتى بعد التسعين، "الموج بيهار" مفاجاة او طفرة جينية، لانه يقول عمليا بان العراق، وبابل، مرض وراثي، مثلما هو للعراقيين جميعا، من المستحيل الشفاء منه، والشيء نفسه يردده "ساسون سوميخ"، واذا مااضفنا هذا الى الموسيقى والغناء، واللهجة وتفصيلات الحياة اليومية، امكننا القول بان الوعد ليس متوقفا على الماضي، وان معادلة من نوع:
1ـ العهد القديم.
2 ـ العهد الجديد.
3 ـ القرآن,
وحلول زمان:
العهد الحديث .. الأخير.
ممكن لابل هو حتمية، وان حقبة الحداثة القومية الوطنية، جسر عابر اجباري بحكم متطلبات حركة التاريخ، فالعراق اليوم على وشك ان يكتشف "وطنيته المتحققة في المنفى قبل الفين وخمسمائة عام" وهي توشك على العودة الى ارضها، بعدما ظلت تدور منتظرة بزوغ أسباب ازهارها في ارضها، طالما كان ذلك متعذرا موضوعيا وزمنيا.
انه الزمن الأخير، ومن ارض فلسطين المتطلعة نحو بابل واور، يجب اليوم تغيير الاتجاهات والنظر، ولاينبغي او يجوز للابراهيمية العراقية الناهضة، ان تقبل احكام "الوطنية الفلسطسنية"، او احتكارها التمثيلي بشقيها الإسلامي والوطني، كما لايجوز للعراقية اليهودية داخل فلسطين، ان تقبل مثل هذا الوضع، مايرتب من هنا فصاعدا انغماسا عمليا يجسد الإرث التفكري الثقافي والمسارات العملية، وحتى الوراثية، اذ ينبغي التواصل مع كل ملمح عراقي ابراهيمي مستجد، كما ينبغي تكتيل الصوت الابراهيمي العربي، بالإضافة للمطالبه بحق التمثيل العام على الجبهتين، الاسرائيلسة والفلسطينية، بما انهما كانتا ومازالتا تحتكران تمثيلا متناقضا متصادما، ليسا هما الاحق باحتكاره، ولاحتى صدق التعبير عنه، او توليد دينامياته. فالقضية الفلسطسينية من هنا وصاعدا، لم تعد ماكانت عليه خلال القرن المنصرم.
سيبزغ امامنا في مثل هذه الحالة تحدي البرنامج، او مقوم واساس الرؤية، هل سينزل بناء علية " كتاب سماوي"، ام ستخط جمل من المعاش، يثيرها التواصل واللقاءات بمختلف اشكالها، وبمجموعات التفكير، حسب ما يتطلبه نوع عملها، من تجميع وإعادة قراءة في الذاكرة والتاريخ، وفي المستجد، لقد صار العراق من الان معنيا، بالاشتغال على مقومات "قلب وعي القرون البائدة"، ومهما تكن الشحة في الإمكانات والقدرات آنيا، وغربتها بفعل تكلس موروثات القرون وتراكمها، الا ان الامل قوي جدا، وهو اكبر من أي حلم كان قد راود الانسان من قبل، بحكم انه حلم عبور قدرات الانسان، وصولا لماوراء حدوده البيولوجية، مايعني مهمة كونية أخرى ومسارا بعيدا اخر، يعيد قراءة شريط البدايات الكونية الأبراهيمية.
في التسعينات، مع احتدام المعركة حول خيار قبول العدوان الأجنبي للخلاص من "الوحش" الذي يسكن الغابة بحرقها، او رفضة ومقاومته بالمتاح، كنت اردد مفكرا"هل ياترى ان العراق الذي نفكر به ونعيشه هنا في المنفى، مايزال هو العراق الذي نحمله معنا في الغربة، ام ان عراقنا الذي نعرفه انتهى، واننا اذا عدنا اليه لن نجده؟" بعد عام 2003 الحت علي تلك الفكرة حتى عام 2009 ،حين تسنى لي الذهاب لأول مرة الى هناك، فاذا بي تائه وسط مكان ماكدت اعرفه، هل هذا ماكان سيحدث مع "سمير نقاش" او "ساسون سوميخ"، هنا تتجلى الطفرة الشعورية الوراثية الجينية ل "الموج بيهار" وهو يخرق قاعدة المفترض انها"مادية" مبعثها الوجود الانطولوجي.
غير ان العراق فكرة غير متحققة لاهلها، تسكنهم كتطلع مبهم، بينما هم يبحثون عنها في المكان حيث يعيشون، ولايجدونها فتتشكل علاقتهم بها وبالارض، ولايمكنهم مهما فعلوا تحقيقها عيشا الا كحلم. كان احد الأصدقاء وهو روائي عراقي يعيش في المنفى، يعلم ابته التي ولدت خارج العراق، ان بلدها الأصلي هو "اجمل بلد في الكون"، وحين كبرت اخذها الشوق الجارف المتولد عن "خرافات الاب"، للعراق بصبحبة أمها، وعند عودتها، ومن الباب قبل ان تدخل على ابيها صاحت به :"انت اكبر كاذب في العالم" ليس هذا مايفعله "الموج بيهار"، والجيل الثاني، او الثالث، من اليهود العراقيين.
ستقولون انني مفتقد للبلاد الفكرة بعد عام 2009، نعم هذا ماحدث، وماجعلني اصر على العثور على ماافتقدته، والسبب انني من يومها لم اعد قادرا على العيش، فقررت ان اذهب الى هناك وابقى، فامضيت سنتين متواصلتين من البحث، دلتني أخير على البوابة المقفلة التي دخلت منها نحو "مملكة الله المقفلة"، وهاانني قد غادرت منذ اشهر، وكلما فتحت الباب وانا خارج العراق لكي اخرج للشارع، أكون متيقنا تماما، بان نظري سيقع على مدينتي المهدمة الخربة التي تخفي بين ثيابها سر الوجود، والتي منها يبدأ الطريق الوحيد المقرر من الغاية العليا للكون، نحو ماوراء الحاضر.
ابتداء من اليوم، سينبثق زمن آخر، وفلسطين ستكون في قلبه، للفلسطينيين أصدقائي… أيها القادة منهم ومن يفكرون، الزمن تغيّر، أيها اليهودي العراقي …تهيأ كي تحتل مقعدك في صدارة السفينه، خلف المقود مباشرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1 ) ـ ( تشلحة وحزقيل: بغداد في القدس، بابل في اورشليم) . ل "الموج بيهار". ترجمه نائل الطوخي،ط1 2016/ الكتب خان للنشروالتوزيع/ القاهرة.
(2) ـ (نفي المنفى "الصهيوني" والحنين الى الجذور العربية: دراسة في "بغداد بالأمس" لساسون سوميخ) د. محمد احمد صالح حسين/ دار الانتشار العربي / بيروت ـ لبنان
ـ يتبع ـ
ملحق : سفير يهودي عراقي في بغداد
خطاب مفتوح للرئيس الفلسطيني محمود عباس